الخطبة الأولى
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها خير الزاد إلى الله، ((وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)).
أيها الاحبة: النفوس البشرية قد يصيبها الفتور و الملل وتعتريها السآمة والكلل و، لكنها ما إن يحدوها الحادي ويذكرها المذكر بسير الأفذاذ النابهين وأخبار الأتقياء والصالحين إلا وتنشط وتبدأ عملها من جديد.// فإذا الفتور يصبح حماساً، وإذا الكلل ينقلب عملاً، ولذلك قال الإمام أبو حنيفة : لسيّر الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه. نعم يا عباد الله / ذلك لأن الفقه وحده و دون مواعظ تلين القلوب و ترقق النفوس لا يكفي .فقد تصبح القلوب أوعية للعلم بلا عمل، بل قد تصبح القلوب كالحجارة أو أشد قسوة ، فما أحوجها حين ذاك لسير الصالحين وآدابهم لإتباع سيرهم والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
أيها المسلمون: سنتذاكر في هذه الخطبة –بإذن الله - سيرة علم من أعلام الصالحين / وإماماً من أئمتهم المبرزين / ورجلاً من رجالتهم المشهورين ، ما إن يذكر اسمه إلا ويذكر الزهد – وما إن يذكر الزهد إلا ويذكر اسمه.// غير أنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان على درجة عالية من الفطنة والزكاة،/ والخشية والإنابة والعقل /والورع، والزهد والتقوى / ما جعله يشبه الصحابة الكرام بل قد قال عنه علي بن زيد : " لو أدرك أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وله مثل أسنانهم ما تقدّموه ". و قال عنه أحد العلماء: "كان رحمه الله جامعاً زاهداً عالماً عالياً رفيعاً فقيها ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً.
عباد الله : كم هو عظيم أن يولد الإنسان في بيت تقى وصلاح ، وأعظم منه أن يكون البيت بيت علم وهداية ، فما بالك أخي الكريم لو كان البيت بيـًتا قرآنيـًا ، يقرأ فيه القرآن ويرتل وعلى أصحابه تنزل ، ما بالك لو كان البيت لإحدى أمهات المؤمنين ؟ هكذا ولد صاحب هذه الترجمة ، فقد كان مولده في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، إذ كانت أمه مولاة لها ، بل لقد كان حجر أم المؤمنين وعاءه ، وصدرها سقاءه ، فأدفئته بصدرها ، وأرضعته لبنها ، وشاء الله أن يدر له منها لبنـًا ، فكان لبنـًا مباركـًا ، غدى به ذرب اللسان ، قوي الحجة والبيان //
أمور كثيرة هي التي منَّ الله عليه بها فرفع بين الناس قدره ، وإن لم يكن ذا نسب رفيع ، لكن رفعه علمه وفضله وتقاه // إنه الإمام / وشيخ الإسلام أبو سعيد // الحسن ابن يسار البصري المشهور بالحسن البصري،
ولد رحمه الله لسنتين بقيتا من خلافه عمر رضي الله عنه/ وذهب به إلى عمر فحنكه ، ولما علمت أم المؤمنين أم سلمة بالخبر أرسلت رسولاً ليحمل إليها الحسن وأمه لتقضي نفاسها عندها ، فلما وقعت عينها على الحسن أحبته ، فقد كان الوليد قسيمـًا وسيمـًا ، بهي الطلعة ، تام الخلقة ، يملأ عين مجتليه ، ويأسر فؤاد رائيه ، فسمته أم المؤمنين رضي الله عنها بالحسن // كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وكان يسار من سبي حسان ، سكن المدينة ، وأُعتق وتزوج في خلافة عمر رضي الله عنه بأم الحسن وأسمها خيرة، كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة / وكانت أمه تتركه عند أم المؤمنين ، وتذهب لقضاء حوائجها ، فكان الحسن إذا بكى ألقمته أم المؤمنين ثديها ، فيدر عليه لبنـًا بأمر الله ، ولم يكن الحسن رضي الله عنه قاصرًا في نشأته على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب ؛ بل كان يدور على بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ ، وكان هذا داعيـًا لأن يتخلق بأخلاق أصحابها رضي الله عنهن /
نشأ الحسن في المدينة النبوية وحفظ القرآن في خلافة عثمان. وكانت أمه وهو صغير تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب.
قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس./ فكان الحسن بعدها فقيهاً وأعطاه الله فهماً ثابتاً لكتابه وجعله محبوباً إلى الناس. / فلازم أبا هريرة وأنس بن مالك وابن عباس وحفظ عنهم ، إلى أن أصبح من نساك التابعين ومن أئمتهم ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار ُيرجع إليه ، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه ، سُئل عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن. فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال أنس بن مالك أيضاً: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن البصري ومحمد بن سيرين. // قال قتادة: وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه،
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهاباً.
قال عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك وأهيبه في صدرك فأقرئه مني السلام، قال فما عدا أن دخلت المسجد فرأيت الحسن والناس حوله جلوس فأتيته وسلّمت عليه.
وكان رحمه الله صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله، قال إبراهيم اليشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
وقال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فأما الحسن البصري. فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، كان يقول : نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا. فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
قال مطر الوراق عنه : كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها، وعن أهوالها / فهو بخبر عما رأي وعاين.
وقال حمزة الأعمى: كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك. لقد بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار.
وقال حكيم بن جعفر قال لي من رأى الحسن: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
وقال ابن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهماً.
وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي.
لله ما أطهر هذه القلوب، ولله ما أزكى هذه النفوس، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور /أم أطلعوا على الجنة وما فيها من الحور/ أو عايشوا النار وما فيها من الثبور/ أم إنه الإيمان والنور (( يهدي الله لنوره من يشاء)).
سبحان الله ولا إله إلا الله، ما الذي تغيّر // هل لهم كتاب غير كتابنا// أم أرواح غير أرواحنا // لا والله لكنها القلوب تغيرت / والنفوس أمنت / والأجسام تنعمت،/ غيرتنا الذنوب وقيدتنا المعاصي / حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية / وقد نعدها مثالية خيالية // وصرنا نذكرها كفقير يذكر غناه أو بئيسٍ ينادي فرحة ومناه / أين إخبات الصالحين،/ أين خشوع المؤمنين / أين دموع التائبين / أين وجل الخائفين .// أين أهل الإيمان، أسفتُ أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب. //
بارك إله لي ولكم... [/center]